كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوريّ: الدِّية من الورِق عشرة آلاف درهم.
رواه الشَّعْبيّ عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدَّية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الوَرِق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاءِ ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحُلَل مائتي حُلّة.
قال أبو عمر: في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صِنف من أصناف الدّية لا على وجه البدل والقيمة؛ وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعليّ وابن عباس.
وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل.
وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيّين.
قال ابن المنذر: وقالت طائفة دية الحرّ المسلم مائة من الإبل لا دِيَةَ غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا قول الشافعيّ وبه قال طاوس.
قال ابن المنذر: دية الحرّ المسلم مائة من الإبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصحّ عنه لأنها مراسيل، وقد عرّفتك مذهب الشافعي وبه نقول.
واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن مَن قُتِل خطأ فدِيَتُه مائةٌ من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حِقّة، وعشر بني لَبُون» قال الخطّابيّ: هذا الحديث لا أعرف أحدًا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: دية الخطأ أخماس.
كذا قال أصحاب الرأي والثّورِيّ، وكذلك مالك وابن سِيرين وأحمد بن حنبل إلاَّ أنهم اختلفوا في الأصناف، قال أصحاب الرأي وأحمد: خُمُس بنو مخاض، وخمسٌ بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حِقاق، وخمس جِذاع.
ورُوي هذا القول عن ابن مسعود.
وقال مالك والشافعيّ: خمس حقاق وخمس جذاع وخمس بنات لبون وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون.
وحُكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يَسار والزُّهرِيّ وربيعة والليث بن سعد.
قال الخطّابيّ: ولأصحاب الرأي فيه أثر، إلاَّ أن راويه عبد الله بن خِشْف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلاَّ بهذا الحديث.
وعدل الشافعي عن القول به؛ لما ذكرنا من العلّة في راويه؛ ولأن فيه بَنِي مَخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصّدقات.
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة القَسامة أنه وَدَى قتيل خَيْبَر مائةً من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خِشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسًا، إلاَّ أن هذا لم يرفعه إلاَّ خِشف بن مالك الكوفيّ الطائي وهو مجهول؛ لأنه لم يروه عنه إلاَّ زيد بن جُبير بن حَرمْل الطائي الجشمي من بني جُشم ابن معاوية أحد ثقات الكوفيين.
قلت: قد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ في سننه حديث خِشف بن مالك من رواية حجّاج بن أَرْطاة عن زيد بن جُبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دِيّة الخطأ مائةً من الإبل؛ منها عشرون حِقّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنات لَبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض» قال الدَّارَقْطنِيّ: هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عِدّة؛ أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفُتْياه من خِشف بن مالك ونظرائه، وعبد الله بن مسعود أتقى لربّه وأشحّ على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويُفتي هو بخلافه؛ هذا لا يتوهّم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ولم يبلغه عنه فيها قول: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله ورسوله، وأن يكن خطأ فمنّي؛ ثم بلغه بعد ذلك أن فُتْياه فيها وافقَ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فرِح فرحًا شديدًا لم يروه فرح مثله، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن كانت هذه صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ويخالفه.
ووجه آخر وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكُر بني المخاض لا نعلمه رواه إلاَّ خِشْف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلاَّ زيد بن جُبير بن حَرْمل الجُشَمي، وأهل العلم بالحديث لا يحتجّون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلًا مشهورًا، أو رجلًا قد ارتفع عنه اسم الجهالة، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يرْوِي عنه رجلان فصاعدًا؛ فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذٍ اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفًا.
فأما من لم يرو عنه إلاَّ رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقّف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره. والله أعلم.
ووجه آخر وهو أن حديث خِشْف بن مالك لا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير عنه إلاَّ الحجاج بن أَرْطاة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدّث عمن لم يَلْقه ولم يسمع منه؛ وترك الرواية عنه سفيانُ بن عُيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه، وكفاك بهم عِلمًا بالرجل ونُبْلًا.
وقال يحيى بن مَعِين: حجاج بن أرطاة لا يُحتجّ بحديثه.
وقال عبد الله بن إدريس: سمعت الحجاج يقول لا يَنْبُل الرجل حتى يدع الصَّلاة في الجماعة.
وقال عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصَّلاة يزاحمني الحمّالون والبقالون.
وقال جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكنّي حبّ المال والشرف.
وذكر أوجها أُخَر؛ منها أن جماعة من الثقات رَووْا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة فاختلفوا عليه فيه.
إلى غير ذلك مما يطول ذكره؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفايةٌ ودِلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدِّية، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي.
وروى حماد بن سلمة حدّثنا سليمان التيميّ عن أبي مِجْلَز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال: دِيَة الخطأ خمسة أخماس عشرون حقّة، وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون وعشرون بني لَبُون ذكور.
قال الدَّارَقُطْنِي: هذا إسناد حسن ورواته ثقات، وقد رُوي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا.
قلت: وهذا هو مذهب مالك والشافعيّ أنّ الدية تكون مُخَمّسة.
قال الخطّابِيّ: وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع؛ وهم الشَّعْبِيّ والنّخَعِيّ والحسن البصري، وإليه ذهب إسحاق بن رَاهْوَيه؛ إلاَّ أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حِقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض.
وقد روي ذلك عن عليّ بن أبي طالب.
قال أبو عمر: أما قول مالك والشافعيّ فروي عن سليمان بن يَسار وليس فيه عن صحابي شيء؛ ولكن عليه عمل أهل المدينة.
وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب.
قلت: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعيّ.
قال أبو عمر: وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسًا ولا نظرًا، وإنما أُخذت اتباعا وتسليمًا، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر؛ فكلٌّ يقول بما قد صحّ عنده من سلفه؛ رضي الله عنهم أجمعين.
قلت: وأما ما حكاه الخطابِيّ من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد، إلاَّ أن مجاهدًا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
يريد قول عبد الله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدّارقطنِيّ والخطابِيّ، وابن عبد البر قال: لأنه الأقل مما قيل؛ وبحديث مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول.
قلت: وعجبًا لابن المنذر؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال. اهـ. بتصرف يسير.
قال القرطبي:
ثبتت الأخبار عن النبيّ المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به.
وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي رِمْثَة حيث دخل عليه ومعه ابنه: {إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه} العمدُ دون الخطأ.
وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة.
واختلفوا في الثلث؛ والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدًا ولا اعترافًا ولا صلحًا، ولا تحمل من دية الخطأ إلاَّ ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني.
وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرِم الأكثر غرِم الأقل.
كما عُقل العمد في مال الجاني قلّ أو كثر؛ هذا قول الشافعيّ.
وحكمها أن تكون منجّمة على العاقلة، والعاقلة العصبة.
وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة، ولا الإخوة من الأم بعصبة لأخوتهم من الأب والأُم، فلا يعقلون عنهم شيئًا.
وكذلك الدّيْوَانُ لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز.
وقال الكوفيون: يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان؛ فتنجّم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعليّ؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضرّ به.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض؛ منها أنه كان يعطيها صلحًا وتسديدًا.
ومنها أنه كان يعجلها تأليفًا.
فلما تمهد الإسلام قدّرتها الصحابة على هذا النظام؛ قاله ابن العربيّ.
وقال أبو عمر: أجمع العلماء قديمًا وحديثًا أن الدّية على العاقلة لا تكون إلاَّ في ثلاث سنين ولا تكون في أقلّ منها.
وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال.
وأجمع أهل السِّيَر والعلم أن الدّية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة؛ ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديْوان.
واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به.
وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدًا، وجعل عليهم قتالَ مَن يَلِيهم من العدوّ.
قلت: ومما ينخرِط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قَتْلُ الجَنِين في بطن أُمه؛ وهو أن يُضرب بطن أُمه فتُلقِيه حيًا ثم يموت؛ فقال كافة العلماء: فيه الدية كاملةً في الخطأ وفي العَمْد بعد القَسامة.